عن الموت وما يفعله بالأحياء | ميار الشحات



وصلت لتلك المرحلة العمرية حيث يأثر في كل شئ بعمق, اصبحت احضر دفنات, و جنازات, أصبحت أشعر بمرارة الفقدان, أصبحت أرى الموت أقرب إلىّ من ريموت التليفزيون الملقى على الطاولة أمامى..فكرة الموت مؤلمة, مؤلمة جدا, إيمانك بأنك مهما ستظل مع هذا الشخص, فحتما سيفصل بينكما الموت, إن لم يكن اليوم, فغدا, أو ربما بعد غد..لطالما تسائلت, لماذا لا يموت البشر كلهم فى وقت واحد؟! نموت كلنا فجأة حتى لا يتألم احد بغياب احبائه...و إي صدمة أخف؟ ان يمرض قبل ان يرحل فتكون مهيئ نفسيا على فقدانه فى وقت قريب؟! أم أن يرحل عن عالمنا فجأة بدون سابق إنذار..و علمت أن مرارة الفقدان واحدة.



شهدت موت العديد من أفراد عائلتى, ولكن فى كل مرة كان ينتابنى شعور مختلف..فى صغرى لم أكن أهتم, لا اعرف ما الفرق بين الميت و الحى, كان إيجاد حزاء دميتى الضائع أهم عندى من الحزن على شخص ما توفى..ثم كبرت قليلا, و أدركت أن الموت مؤلم جدا للأحياء, لم أكترث لحال الميت, فأنا لا أراه, لا أعرف كيف يشعر, و بماذا يمر, ولكنى أرى أحوال الأحياء و هم يعتصرهم الحزن والألم على فقدانه, أرى هذا كيف يحاول كتم دموعه ويتماسك, وآخر تفرط منه دمعة تصاحبها ابتسامة خفيفة لتذكره موقف ما بينه و بين المتوفى, أشعر برعشة الصوت, بإختناق العيون بالدموع, اليأس و الزهد فى الحياة المؤقت, الذى عادة يتلاشى مع مرور الوقت.
كبرت أكثر قليلا, وشهدت اكثر المواقف فجاعة, فكان الإبتلاء حينها ليس فى شخص ما بالعائلة أعرفه معرفة سطحية  أو لا تجمعنا علاقة قوية, ولكن فى جدتى..أعجز  فعلا عن وصف ما تعنيه "جدتى" لى, ولكن فلنقل أنها كانت عمود قوى و حنون, كانت البهجة, أحببت كل تفصيلة فيها, احببت تجاعيد وجهها الخفيفة, و عروق يدها, و خاتمها الزمردى, كان وجودها فى حياتى شئ مهم وأساسى, لم أكن اتخيل ابدا البيت بدونها..ذلك اليوم عدت من المدرسة وجدت ابنة خالتى فى البيت, فرحت برؤيتها كثيرا, ولكن سرعان ما انكمشت ابتسامتى..أخبرتنى ابنة خالتى أنهم قد نقلوا جدتى للمستشفى بعدما أغمى عليها فى الكنيسة, كانت تعزى جارتنا فى فقيدها, فلحقت به!

مكثت جدتى حوالى 15 يوم فى المستشفى  مروا بصعوبة شديدة. اتذكر إنقباض قلبى مع كل رنة هاتف خوفا من سماع الخبر المشئوم, تعلقى بآمال واهية, و أملى فى أن تعود لنا من جديد وينتهى هذا الكابوس..وقصص معارفنا الذين مروا بنفس الحالة الصحية لها و مكثوا ثلاث و اربع شهور فى المستشفى ولكنهم عادوا لحياتهم الطبيعية , كنا نسرد لبعضنا البعض هذه القصص فى محاولة بائسة لبث التفائل فى ارواحنا..ولكن مع كل يوم, كان الأمل يقل, واليأس يزيد..لم أقوى على زيارتها, لم استطيع ان اراها فى تلك الحالة, كنت انتظر ان تعود صحيحة الى البيت, ولكن مع كل يوم يمر كنت اتأكد انها لن تعود, قررت ان ازورها اليوم التالى, تعقمت ودخلت الى غرفتها, صدمت مما رأيته,,كيف وصلت جدتى لهذا الحال؟ أمسكت بيدها و ترجيتها ان تقاوم وألا تستسلم, من اجلى و من اجل امى, ولكن يبدو انها لم تستطيع ان تتحمل اكثر من ذلك, فبعدها بيومين اخرجت آخر نفس, و رحلت جدتى عن عالمنا فى هدوء تام.

لم احزن فى حياتى مثل ما حزنت على فقدانى لجدتى, لم استوعب فكرة انى لن اراها مرة اخرى, لن احدثها, ولن تحكيلى حكاياتها التى احفظها عن ظهر قلب, ومع ذلك احب جدا ان اسمعها منها. لم يحدث مثل ما نراه فى المسلسلات, لم تتحدث معى, لم توصينى, لم تخبرنى كم تحبنى, كنت فى اشد الحاجة لسماع كلمة واحدة منها..ولكنها رحلت فجأة, فى صمت..لو سنحت لى الفرصة كنت سأخبرها بكل شئ, كنت ساخبرها انى لن انساها مع الوقت مثل الآخرون, سأظل ابعث لها الهدايا مع الله, سأطلب منه كل ليلة ان يجعلها فى امانه وضمانه و احسانه, سأطمنها بأننا سنظل نتحدث, واننا حتما سنلتقى, كنت سأخبرها كم احبها, و كم سأشتاق اليها..كنت سأوعدها بأنى سأظل مخلصة لها للأبد, ولن تلهينى الدنيا عنها, وعن الدعاء لها دائما فى كل وقت وحين..ولكن حال الموت بينى وبينها, فسلام على روحها البسيطة, الجميلة, الطيبة.

"عزيزى الموت,
اكرهك من كل قلبى..نعم, أعرف انه لا مفر منك ابدا, ولكن ارجوك, توقف عن سلب احبابى منى وانا مكتوفة الايدى. إن كان لديك مشكلة معى, فلنحل مشكلتنا سويا بعيدا عمن احبهم..ارجوك اتركهم و شأنهم.."
أمس حضرت عزاء احد اقاربى, خرجت من المسجد وانا اتسائل " من التالى؟!" .. تبا للموت ولما يفعله بنا نحن الأحياء, للآمال الكاذبة التى نتعلق بها حتى لا نشعر اننا سنفقد من نحبه, تبا للصدمة, للمفاجأة, للكسرة, للوحدة..سيقولون لك انه فى مكان افضل الآن, وان الله اراد به خيرا, فلم يعذبه بأى مرض ومات فجأة, او ان الله اراد ان يخفف عنه الحساب فإبتلاه بمرض قبل الموت..نصيغ القصة كما نريد, لعلها تريحنا او تصبرنا قليلا, فالموت أشد إبتلاء, و أعمق حزن, وأطول ألم..ورغم كل شئ, ستمضى الأيام, و ستستمر الحياة, و سيظل السؤال.."من التالى؟!"

No comments:

Post a Comment

Leave a comment before you go :)